إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران/102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء/1]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب/70، 71]
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فيا معاشر المسلمين، نتحدث إليكم في موضوع مهم، ومهم جداً، وذلكم لأنه من خلاله – إن شاء الله – تعرض قواعد وأصول يستعملها أهل السنة في التعامل مع من يخالفهم، وسواء كان الخلاف في أصول الدين أو فروعه؛ لأنه من المتقرر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة أن العبرة هو بما دل عليه الدليل، وهذا الدليل على الحكم إما آية من آي التنـزيل الكريم، أو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحسن ما قاله رابع أمراء المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه :)( لو كان الدين بالرأي، لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه ))، فإذا تقرر هذا أيها المسلمون، فإن حديثنا معكم في هذا الموضوع الذي بانت لكم عظيم مكانته وأهميته من خلال هذا العرض اليسير، فإن الحديث فيه يتضمن أموراً عدة:
الأمر الأول: أن الأصل في الإنسانية هو خالص التدين لله – سبحانه وتعالى -، وحسن إتباع رسله، وهذا ما دل عليه الدليل الصريح من الكتاب الكريم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى -:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [البقرة/213]
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(( قال الله – تعالى-:وإني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن ذكر الله، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به عليهم سلطاناً، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم )).
فيتلخص لدينا من هذه الآية وهذا الحديث، وما هو في معناهما من آي التنـزيل الكريم، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
أولاً: أن الله – سبحانه وتعالى – أرسل رسله، وكذلك أنزل كتبه لرد الناس إلى الصواب من أمر دينهم، بعدما اختلفوا بغياً بينهم.
الثاني: في قوله – تعالى -: ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) إلى آخر الآية وهذا تنبيه إلى أنه يجب على المسلم حال الاختلاف أن ينظر إلى الحق، وبه يزن ما يرد عليه من الاقوال والأعمال ،( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) . ويتبع هذا تنبيه آخر وهو: أن الاجتماع والاتفاق على ما أنزل الله – سبحانه وتعالى – في كتبه على رسله هو سبيل النجاة، وسبيل الفلاح، وسبيل السعادة في الدنيا والآخرة، وما عدا ذلك من أقوال المختلفين فليست بشيء، بل في الآية ما يشعر بذم المختلفين الذين خالفوا الحق، وركبوا الباطل، بعد ما بَين لهم الحق، ألم تسمعوا إليه – سبحانه وتعالى – في هذه الآية:(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
الثالث: هو أن الآية والحديث، وكذلكم ما هو في معناهما مشعر بأن الدعاة إلى الله على بصيرة هم الذين يجندون أنفسهم ويبذلون كل ما آتاهم الله – سبحانه وتعالى – من العلم والعمل والقوة والقدرة والوقت كي يردوا الناس إلى الأمر الأول، السمت الأول، وهو ما اختاره الله لعباده من الهدى ودين الحق.
يوضح هذا ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن ابن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنه لم يكن نبي قبلي قط إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرون… )) الحديث.
وكان وهب بن كيسان – رحمه الله – إذا قعد لأصحابه لا يقوم حتى يقول لهم: ((اعلموا أنه لن يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله )) قال أصبغ بن الفرج لمالك – رحم الله الجميع – ومالك هو راوي هذا الأثر عن شيخه وهب بن كيسان – رحمه الله -: ماذا يريد؟ قال: يريد بادئ الدين أو التقوى.
ومما جاء في معنى حديث ابن عمرو من الشواهد على صدق ما قاله وهب بن كيسان – رحمه الله -، قوله صلى الله عليه وسلم :(( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))
وعلى ما أفادته الأحاديث المتواترة في هذا الباب، أجمع أهل العلم والإيمان بدءً من الصحابة، فأئمة التابعين، فمن بعدهم، أجمعوا على أنه يجب الأخذ بما دل عليه الدليل من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلكم قول ابن عباس – رضي الله عنهما-:(( والله ما أظن أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني اليوم)) فقيل: وكيف؟
قال: (( تحدث البدعة في المشرق أو المغرب، فيحملها الرجل إلي، فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة، فترد عليه )). ومن قبل قال الفاروق رضي الله عنه :(( إياكم وأهل الرأي، أعداء السنن، أعيتهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا )).
ومن أقوال التابعين ما أخرجه الدارمي عن الشعبي – رحمه الله – قال: (( إياكم والمقايَسَة، فوالذي نفسي بيده لإن أخذتم بالقياس لَتُحِلُّنّ الحرام ولَتُحَرِّمُنّ الحلال، فما بلغكم عن من حفظ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذوا به – أو قال – فاحفظوه ))
وكان الإمام مالك – رحمه الله – يقول: (( السنة سفينة نوح، من ركبها نجا ))
وقال عبد الله بن شَوْذَب الخراساني – رحمه الله -: (( إن من نعمة الله على الأعجمي والحدث إذا تنسكا، أن يُواخيا صاحب سنة فيحمِلُُهما عليها )) فقوله: (تنسك) يعني تعبّد لله – سبحانه -، وهذه الكلمة في عرفنا اليوم كلمة بمعناها وهي: إلتزم.
الأمر الثاني: الذي يتضمنه حديثنا معكم معاشر المسلمين والمسلمات في الرأي، الكثير منكم – لاسيما طلاب العلم-، لا يخفى عليهم ما تواتر عن السلف الصالح من الصحابة وأئمة التابعين، ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة الثلاثة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، ما تواتر عنهم في ذم الرأي وأهله.
أقسام الرأي:
وقد ثبت لدينا بالاستقراء أن الرأي أقسام ثلاثة:
أحدها: رأي الفقيه العالم الراسخ في العلم، الناصح للأمة حين تنـزل به نازلة، فلا يجد ما يَحُلُّها من الدليل لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، يبذل وسعه فَتُعْوِزُه الحِيَل، فيرى أنه لا بد من رأي في هذه المسألة، فيصيب رأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا الصنف من الرأي شاهده ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عرضت عليه قضية امرأة تٌوفي زوجها قبل الدخول عليها، فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله ورسوله بريئان منه، أرى أنها لها الصداق والميراث، وعليها العدة، فقام رجل فقال: أشهد على رسول الله لقضى في امرأة منا بمثل ما قضيت يا ابن مسعود. فكبر رضي الله عنه فرحاً أن أصاب برأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الرأي أيها السامعون من المسلمين والمسلمات محمود، وصاحبه محمود، أولا: لأنه بذل وسعه واجتهد، وثانياً: عمد إلى الرأي حينما لم يجد دليلاً، وثالثاً: أن رأيه هذا وافق السنة، وهذا من توفيق الله – سبحانه وتعالى – .
القسم الثاني: هو رأي الفقيه المجتهد الناصح للأمة الذي تنـزل به نازلة كذلك، فيجتهد فيها رأيه، فلا يصب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الفقيه محمود ومشكور، ويثنى عليه بما يثنى به على أهل العلم والإيمان، ولكنّ رأيه غير مقبول؛ لمخالفته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم :(( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) ، فهو عند من يعرف قدر العلماء المجتهدين الفضلاء محمود، مغفور له خطؤه إن شاء الله، معذور فيما أخطأ فيه، مأجور على اجتهاده، ولهذا فإن أهل هذا الصنف من الرأي لا يشنع عليهم العلماء، ولا يثرِّبون عليهم، بل يحفظون كرامتهم، ويصونون أعراضهم، ويعرفون لهم السابقة بالفضل وجلالة القدر، وإن كانوا لا يتابعونهم على ما أخطئوا فيه، لما هو متقرر عندهم أنه لا يسوغ متابعة المخطئ على خطئه ما دام قد تبين له أن الدليل على خلاف ذلكم الرأي وذلكم الاجتهاد.
القسم الثالث من أقسام الرأي: هو رأي أهل الهوى الضلال، الذين جعلوا عقلهم إماماً يحكمون به على النصوص، ولا يجعلون عقولهم تابعة للنصوص، فهذا الرأي هو الذي حذر منه الأئمة، وشنعوا على من يقول به؛ لأنه في هذا الرأي تعطيل للنصوص وعدم العمل بها والركون إلى أقوال الرجال، وكان الإمام أحمد – رحمه الله – يذم الرأي بصفة عامة ويقول: (( عجت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان )) وكذلكم تواتر عن أئمة العلم والإيمان ذم هذا الصنف من الرأي، وذم أهله، والتشنيع عليهم، فمن ذلكم قول مفضل بن مُهَلْهَل – رحمه الله -: (( لو كان صاحب البدعة يحدثك في أول أمره بالبدعة لحذرته ونفرت منه، ولكنه يحدثك في بُدُوِّ مجلسه بالسنة، ثم يدخل عليك من بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تفارق قلبك )).
وقال مصعب بن سعد – رحمه الله -: (( لا تجالس مفتوناً،؛ فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين، إما أن يفتنك فتتابعه، أو يؤذيك قبل أن تفارقه )).
ومن هذا القبيل في ذم الرأي الذي هو مجرد قياس ومحض اجتهاد مباينة للنصوص، قول مالك – رحمه الله – :(( أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم )). وقال أيوب السختياني – رحمه الله -:(( قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني أربعاً:
1- لا تقل في القرآن برأيك
2- وإياك والقدر – يعني لا تخاصم فيه ولا تجادل –
3- وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك
4- ولا تمكن أهل الأهواء من سمعك فيِقرُّوا فيه ما شاءوا -أو قال: – ينبذوا فيه ما شاءوا ))
وكان ابن سيرين وتلميذه أيوب السختياني وغيرهما من الأئمة إذا دخل عليهم أهل الأهواء تركوا المجلس، بل قال قائل السلف: إني لا أحب أن أسمع منه القرآن. فقيل له: وكيف؟ قال: أخشى أن يدخل علي فيه ما ليس منه.
الأمر الثالث الذي يتضمنه حديثنا معكم: الأصل في التعامل مع المخالفين.
وهذا الأصل له فروع عدة:
الفرع الأول: أن أهل السنة ينظرون إلى المخالفة والمخالف، فلا يقبلون المخالفة بحال، بل يعنفون على من أظهر المخالفة، ورفع بها عقيرته، وصدع بها ولجلج، وإن كان عندهم من الفضلاء، ولنأخذ على ذلكم بعض الأمثلة، فنبدأ بخير الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه، في صحيح البخاري أن عبد الله بن مغفل رضي اللع عنه رأى غلاماً قريباً له يحذف بالحصى، فقال: لا تفعل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الحذف. – يقال الخذف كذلك- ويقول: (( إنها لا تقتل صيداً ولا تَنْكأ عدواً وإنما تفقع العين وتكسر السن )) فأعاد الغلام، فأعاد له، في الثالثة أو الرابعة قال: لا أكلمك أبدا.
انظروا كيف شدد عليه (لا أكلمك أبداً، أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفعل).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )) فقال ابنه بلال: والله لأمنعهن. قال الراوي: فسمعته يسبه سباً ما سب به أحداً قبله.
وعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قيل له: يقول أبو محمد الوتر واجب. قال: كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(( خمس صلوات كتبهن الله على عباده في اليوم الليلة… )) الحديث أخرجه الطيالسي والسجستاني وأحمد والبغوي في شرح السنة وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، والنقل عنهم رضي الله عنهم في هذا الباب متواتر في الاستنكار على من أظهر خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه النظرة للمخالفة، وأما المخالف فإنه عندهم أحد رجلين:
الأول: رجل هو على خير وعلى سنة وعلى هدى، لكنه أخطأ في أمر من الأمور، فإنه كما يردون مخالفته ولا يقبلونها فإنهم يحفظون كرامته، وقد تقدم هذا.
الثاني: هم أهل الهوى من المبتدعة الضلال، فإن أهل السنة يقفون معهم أولاً برد بدعهم وبشدة، ثانياً إذا كانت لأهل السنة الصولة و الجولة ورجحان الكفة والقوة، فإنهم يشددون على المبتدعة النكير ويجلبون عليهم بخيلهم ورجلهم إهانة لهم وإغلاظاً وإذلالاً، حتى يحذرهم الناس ويتوقوهم، وإذا كانت الكفة للمبتدعة والصولة لهم والقوة بأيديهم، فإن أهل السنة يكتفون برد البدع والمحدثات، ولا يرضونها أبداً.
وقد دل الدليل القاطع على هذا المسلك، وهذا المنهج الذي ينتهجه أهل السنة مع مخالفيهم من أهل البدع، فمن ذلكم:
ما أخرجه البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) حتى بلغ ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران/7] فقال: (( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء بتأويله، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم )). وفي مقدمة صحيح مسلم وشرح السنة للبغوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم )).
وفي هذا الباب ما صح عنه صلى الله عليه وسلممن طرق عدة: (( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة )) فسرها ابن مسعود رضي الله عنه فقال: (( الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك فإنك حينئذ الجماعة )) وحذر صلى الله عليه وسلم من الخوارج وأمر بقتلهم وقتالهم، وأخبر أنهم (( شر قتلى تحت أديم السماء )) ووصفهم أوصافاً من انطبقت عليه فهو منهم في كل زمان ومكان، فقال: ((سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )) وقال: (( تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم )) إلى غير ذلك مما هو متواتر في الخوارج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا مشى أئمة الهدى والإيمان والعلم والدين، فحذروا من دعاة الهوى والضلال والبدعة.
من ذلكم ما أخرجه الذهبي في الميزان وغيره من كتبه عن عاصم الأحول قال: كنا في مجلس قتادة، فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه، قلت – القائل هو عاصم الأحول – : ما أرى أن يقع أهل العلم بعضهم في بعض، فالتفت إليّ – الملتفت قتادة – فقال: أما تدري يا أحول أن الرجل إذا ابتدع بدعة يجب أن يذكر ليحذر.
وعلى هذا تتابع الأئمة كذلكم، فإنه ما من زمان ولا مكان يرفع أهل الهوى ودعاة الضلالة ألوية البدع إلا وينبري لها علماء السنة فيردونها بالدليل.
ومن فروع هذا الأصل أن أهل السنة حينما يردون على مخالفيهم يردون عليهم:
أولاً: بالعلم الذي يجلي الحق، ويبين ما خالفه، وليس ذلك من قبيل المهاترات والسباب والشتائم، بل قاعدتهم: قال الله وقال رسوله وقال الصحابة، وهم في ذلكم مقتفون متبعون.
وثانياً: أنهم ليس لهم هدف ولا غرض في هذا المخالف في ذاته، فلا شأن لهم في طوله وقصره، ونسبه وأوصافه الخلقية، بل إنما يتكلمون في هذا المخالف لما أظهر وقرر وصدع به من إفساد الدين على عباد الله.
ومن هنا بالإضافة إلى ما تقدم من قول قتادة، فإن من نظر في كتب الجرح والتعديل وجدها ملأى بهذا التشنيع على دعاة الفساد في منهجهم و معتقدهم، فيقولون مثلاً: عمرو بن عبيد قدري معتزلي، ويقولون في واصل بن عطاء: شيخ المعتزلة في زمانه، وفي بشر بن غياث المريسي: رأس فتنة القول بخلق القرآن، وهكذا، فإنهم يتكلمون في المخالف لهم من أفراد وجماعات، ومقصودهم بهذا حماية الأمة في دينها، حتى لا يفسد عليها هؤلاء الضالون المضلون ما عرفوه من دين الله – سبحانه وتعالى – وورثوه من شرع محمد صلى الله عليه وسلممن طريق أصحابه، ثم من طريق أئمة التابعين، ثم من طريق من بعدهم، كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المحترمة، والسفيانين، والحمادين، والأوزاعي، والليث بن سعد، وغيرهم من أئمة السنة، فإنهم مجندون أنفسهم للذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أهلها، وكذلك يناصرون السنة، ويناصرون أهلها، لا يخافون في الله لومة لائم، لكن كما قدمت إذا ظهر لهم أن هجر المبتدعة والكلام في رجال بأعيانهم يجلب عليهم مفسدة أكبر، يكتفون برد البدع المحدثة.
الفرع الثاني: الأصل هو هجر المبتدع زجراً له، فلا يكلم ولا يؤاكل ولا يشارب ولا يناكح ولا يجالس، هذا هو الأصل وقد سمعتم الأحاديث في ذلك، فإياكم وإياهم، هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الهجر موكول إلى العلماء الكبار والأئمة المطاعين، فهم الذين يملكون دعوة العامة والخاصة إلى هجر المخالف، وأما سائر الناس، أفراد الناس، فإنهم لهم الهجر الوقائي، فمن خشي إنساناً يضر به في دينه ودنياه، فله مفاصلته والبعد عنه إلا إذا ترتبت مفسدة، فلو تكلم الشيخ عبد العزيز – رحمه الله – وهو شيخ إسلام، أو الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – وهو شيخ إسلام عندنا كذلك معلنا هجر إنسان ما، فإنه يسقط ولا تقوم له قائمة، لما هو معلوم عند الخاصة والعامة، ولا عبرة بمن شذ في مكانة هؤلاء الأشياخ وعظيم قدرهم، وسابقة فضلهم على أهل الإسلام.
النظر في كتب الضلال:
وهاهنا سؤال، وهو ضمن هذا الأصل، وهو النظر في كتب الضلال، ومنها ما يسمى اليوم بالكتب الفكرية، فهي صنف من أصناف الكتب المضللة، ما الموقف الذي يجب على المسلم حيال هذه الكتب؟
إن هذه الكتب ليست على وتيرة واحدة، لا في محتواها، ولا في أسلوبها، ولا في دعوتها إلى الضلالة، فهي تختلف، ومن هنا كذلك يختلف الناظر فيها، وتحرير هذا، أن كتب هؤلاء الضلال الضالين المضلين أصناف ثلاثة:
أحدها: ما كان محضاً في الضلالة، وليس فيه من الحق شيء أو فيه نزر يسير مغمور بأضعاف مضاعفة من الباطل، فهذا لا يحل النظر فيه إلا لعالم متمكن، ومقصوده أن يرد على هؤلاء الضلال من كتبهم؛ لأن أهل الضلال لا يقبلون الاحتجاج عليهم إلا ما احتوته كتب أسلافهم وأئمتهم، فلو جلست إلى رافضي فقلت له: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قال فلان، قال فلان، من ذوي المكانة العظيمة عندك لما هو عليه من السنة، فإنهم لا يقبلون ذلك، بل من وقاحتهم يقعون في أعراضهم أمامك، لكن حينما تقول لهم: قال الكليني، قال فلان، قال فلان، من أئمتهم، فإنك تقيم الحجة عليهم وتبهتهم، لاسيما حينما تحيلهم إلى الجزء والصفحة، أو تنقل لهم نقلاً تحفظه مع الإحالة.
ومن أمثلة هذا كتب الرافضة المعنية في بيان أصولهم، كالكافي وأصوله للكليني.
الثاني: ما كان خليطاً فيه حق وباطل، وسنة وبدعة، وهدى وضلالة، فهذا الصنف لا يحل النظر فيه إلا لعالم متمكن عنده أهلية لتمييز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، والهدى من الضلالة، والبدعة من السنة، فهذا لا بأس عليه، وإن كان استغناؤه بكتب أئمة السنة أولى وأحوط لدينه وعرضه وأسلم له.
ومن أمثلة هذا الكشاف للزمخشري، فإنه يحوي الاعتزال المدسوس الماكر، لأنه معتزلي جَلْد، ويدس اعتزاله بما لا يدركه إلا الفطناء النبلاء الحذاق، في كتابه الكشاف، ولهذا قال بعض العلماء: إنا نستخرج إعتزاليات الزمخشري بالمناقيش، والكتاب مفيد في النحو و الصرف، واللغة، والبديع، و المعاني ولذا ينقل منه هذه العلوم كثير من علماء السنة.
الثالث: ما خلا من البدع والمحدثات؛ لأن صاحبه لا يهمه إلا أنه يؤلف كتاباً لينتفع مادياً فقط، همه أن يؤلف كتاباً يقرأه الناس وهو يستفيد منهم منافع دنيوية، إما حسية وإما معنوية، كأن يؤلف في الزكاة ما يوافق أهل السنة ولم يخلطه بخليط، هذا الأمر فيه واسع، وإن كنا لنا موقفان حيال هذا وغيره، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز نشر كتب الضلال من أصحاب الكتب الفكرية وغيرهم قديماً وحديثاً بين الخاصة والعامة؛ لأن العامة لا يفرقون، ولا يعرفون الناس، فمن نشر بينهم كتاباً فكرياً أو من الكتب القديمة التي ورثتها الكتب الفكرية اليوم، فإنه يجني على الأمة، ومن ضل بسببه وكان له قصد في ذلك فإن عليه مثل إثمه، وأما الاقتناء فكما سلف بيانه، فإنه يفرق بين الاقتناء والنشر، فأي كتاب يحوي من الضلالة ما يحوي فاقتناؤه بالنسبة لمن يحسن النظر وعنده أهلية التميز، هذا لا بأس به، وإن كان الأولى عدم ذلك، وأما النشر فإن من نشر كتب الضلال، ومنها الكتب الفكرية اليوم، وعلى رأسها كتب سيد قطب، وكتب أبي الأعلى المودودي، وحسن البنا، وغيرها من الكتب الفكرية، فإنه يعين على إفساد السنة والإضرار بأهلها.
الفرع الثالث: أن من أضر الناس في دينهم أو دنياهم، استحق العقوبة بقدر ما يضر الناس به، وبسط هذا عند شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – بعنوان: قاعدة شريفة، ذكر في هذه القاعدة ما يروي الغليل ويشفي العليل من التصدي للمخالفين ومعاقبتهم بما يقدر عليه، ونحن لا نقدر إلا على الرد العلمي المؤصل على الكتاب
والسنة، وهذه القاعدة الشريفة في الجزء العاشر من مجموع الفتاوى، وبالتحديد في
صفحة 373، وهذا الأمر مجمع عليه عند أهل السنة، ويظهر لمن تأمل تلكم القاعدة، وكان متجرداً للحق، طالباً له، أن هجر العاصي والمبتدع، ليس له أمد ولا حد، بل أمده حين يقلع عما هو فيه من معصية أو بدعة.
وهذا من الأدلة عليه:
هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزوة تبوك، هجرهم خمسين ليلة حتى أنزل الله توبتهم، وكان كعب رضي الله عنه يقول:(( والله ما بي أن أموت أو يموت رسول الله وأنا على تلك الحالة )) خشي رضي الله عنه أن يموت على الضلالة.
ومن هنا يعلم أن تحديد الهجر مطلقاً بثلاثة أيام خطأ فاحش، وإن قال قائل كيف تصنعون بما أخرجه الشيخان من حديث أبي أيوب رضي الله عنه :(( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) فالجواب: لقد أبان أئمتنا الجمع بين هذا الحديث، وبين ما دلت عليه قصة كعب وصاحبيه رضي الله عنهم من أن هجر العاصي والمبتدع ليس له أمد حتى يقلع عما هو فيه من معصية الله.
قال أهل العلم: إن حديث أبي أيوب هو في الهجر في حق الصحبة، فمن عاتب أخاه فإنه لا يزيد في الهجر على ثلاثة أيام.
ونختم هذا الحديث ببيان أمر وإن كان قد سبقت الإشارة إلى بعض أفراده.
هذا الأمر: أنه من قواعد أهل السنة الحكم على المخالفة بما يدل عليه الشرع، فما دل الشرع على أنه كفر قالوا هذا كفر، ما دل على أنه فسق ليس مخرج من الملة قالوا هذا فسق، وما دل على أنه مجرد خطيئة قالوا خطيئة، وكذلك التفريق بين البدع، وأن منها المكفرة، كوحدة الوجود والتجهم والرفض. والمفسقة، كالتمشعر، ومنها ما دون ذلك كالذِّكر الجماعي، وهذا مبسوط في دواوين أهل السنة التي عنيت بتدوين السنة دعوة إليها، وكذلك تدوين البدع و بيانها، تحذيراً منها، فأهل السنة لا يجاوزون دلالة الشرع.
ومن قواعدهم أنهم يفرقون بين الفعل والفاعل، والقول والقائل، فرب خطيئة هي كفرية أو فسقية أو بدعية أو مجرد معصية، ولا يحكمون على من صدرت منه هذه الخطيئة بأنه كافر أو مبتدع أو فاسق أو عاصي، لماذا؟ لأنه إما لم تجتمع فيه الشروط، أو لم تنتفي عنه الموانع.
ويتبع هذا تفريقهم بين الحكم على سبيل العموم، والحكم على سبيل التعيين، فعلى سبيل العموم مثلاً يقولون: تارك الصلاة كافر، تارك الزكاة بخلاً مع الإقرار بها فاسق، وجاحدها كافر،… وهكذا، وأما تعيين صاحب هذه المخالفة، فإنهم ينظرون فيه إلى أمرين:
الأمر الأول: دلالة الشرع على مخالفته، هل هي كفرية أو فسقية أو غير ذلك؟
الأمر الثاني: انطباق الوصف على المعين هل ينطبق عليه الوصف أو لا؟ وكيف ينطبق الوصف عليه؟ باجتماع الشروط وامتناع الموانع. وهذا له عندهم شروط، منها: التكليف، والتكليف يشمل البلوغ والعقل، ومنها العلم بمخالفته بأنها بدعية أو فسقية أو كفرية.
وهذه الشروط جمع أكثرها شيخ الإسلام الثاني عندنا في هذا العصر، وأعني به الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – في كتابه النفيس النافع الماتع (القواعد المثلى) فمن أراد مزيد التفصيل والبسط فليراجعه، فسيجد فيه ما يروي الغليل ويشفي العليل – إن شاء الله تعالى-
هذا ما يسر الله جمعه وتحريره في هذه المسالة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
كتبه عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري
المدرس بالجامعة الإسلامة سابقا
مساء الثلاثاء 12/صفر/1429
الموافق 19/فبراير/2008