❐❑❏
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيد:
أما بعد:
فلا يخفى على من بصَّره الله وأنار قلبه بالهدى وطوع نفسه باغتنام سبيل كل خير فضل ليلة القدر، وذلك لما جاء في التنزيل الكريم ومستفيض السنة الصحيحة من عظيم فضلها وشرفها وحض المسلم على اغتنامها وتحريها.
فمن آيِّ التنزيل الكريم قوله تعالى {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ([1])}.
وبين سبحانه هذه الليلة المباركة بقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ([2])}.
❐❑❏
قال مقيده: فقد تضمنت هذه الآيات من السورتين مجتمعة ثلاث فوائد عظيمة:
الأولى: فضل هذه الليلة، والحض على اغتنامها وتحرِّيها، كما جاء في السنة الصحيحة أن ذلك في أوتار العشر الأخيرة من رمضان.
الثانية: نزول القرآن في هذه الليلة، وهو الكتاب الذي أنزله الله بالهدى وبينات من الهدى والفرقان، وجعل فيه لا في غيره من كلام البشر الهدى والنور.
الثالثة: وهذه في سورة القدر خاصة، الحضُّ على العبادة في هذه الليلة، وأنه من قيام ليلٍ وقراءة قرآن وغير ذلك مما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك يزيد على فضل العبادة في ألف شهر خلت من ليلة القدر، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأشهر.
وليس حديثي إليكم معاشر المسلمين مبسوطًا في بيان فضل هذه الليلة والحضِّ على تحرِّيها، فقد بسط ذلك في غير هذا الموضع.
❐❑❏
وسيكون حديثي مقصوراً على مسائل:
المسألة الأولى: هل تُرى ليلة القدر بالعين المجردة؟
يجري على ألسنة كثير من العامة أن ليلة القدر تُرى نوراً بين السماء والأرض، وسترى فيما نبيِّنه ضمن الجواب على هذا السؤال إن كان ذلك صحيحًا:
فنقول بادئ ذي بدء لا يقبل مثل هذا القول إلا بحجة يجب التسليم لها، وهذه الحجة إما آية من التنزيل الكريم أو حديث صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) أخرجه الترمذي ([3]) وابن ماجة ([4]) وأحمد ([5]) ولفظه (يا نبي الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول؟ قال: “تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني”).
وللنسائي في الكبرى (يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ماذا أدعو به؟ قال: ” قولي: اللهم إنك عفو تحب العافية فاعف عني) ([6]) وفي رواية (يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر، فما أسأل الله فيها؟ قال: ” قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ([7]).
ش/ فليس في الحديث بمجموع رواياته دليلٌ على رؤية هذه الليلة المباركة بالعين المجردة.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
س: هل ترى ليلة القدر عيانا أي أنها ترى بالعين البشرية المجردة؟ حيث أن بعض الناس يقولون إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورا في السماء ونحو هذا، وكيف رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر؟ وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
جـ/ قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا، فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم طلبا للأجر والثواب فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها..]([8]) أهـ.
ش/ وذكر الحديثين المتقدمين.
المسألة الثانية: هل لها علامات تعرف بها؟
يتلخص مما سبق أن ليلة القدر لا تُرى بالعين المجردة كما هو شائع عند العوام وقد أسلفناه، وإنما لها علاماتٌ وهاك هذه العلامات على وفق ما صحت به السنة:
· الأولى: الطلاقة:
لحديث جابر عند ابن حبان ([9]) وابن خزيمة ([10]) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت أريت ليلة القدر ثم نُسِّيتُها وهي في العشر الأواخر وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمراً يفضح كواكبها لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها) قال الألباني: صحيح لغيره ([11]).
· الثانية: طلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها:
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: (ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة و لا باردة تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء) رواه أبو داود الطيالسي ([12])، وقال الألباني: (صحيح)([13]).
الثالثة: نزول المطر في ليلتها:
لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه (وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين» قال أبو سعيد الخدري: مطرنا ليلة إحدى وعشرين، فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل طينا وماء) ([14]).
ش/ قال عبيد: فهذه علامات ثلاث صحة به سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تطلبنَّ غيرها.
المسألة الثالثة: هل يسوغ للمسلم أن ينشر ما رأه من علامات تلك الليلة المباركة؟
ماذا يقال لمن أولع صبيحة كل ليلة وتر من هذه العشر تشوفاً بعلامات هذه الليلة ومن ثم نقل ما يرونه بالصورة بين مستقل ومستكثر.
فيقال أولا: هل سلك هذا المسلك من السلف الصالحين أحدٌ قبلكم!؟
– فإن قلتم: نعم، قلنا: أسندوا قولكم عن إمام معتبر.
– وإن قلتم: لا، قلنا: فلماذا إذن تتكلفون؟
وثانيا: ننقل ما نرى أنه مما يروي الغليل ويشفي العليل نصيحة لمن أحب النصيحة فنقول:
قال الحافظ رحمه الله: “واستنبط السبكي الكبير في الحلبيات من هذه القصة استحباب كتمان ليلة القدر لمن رأها. [قلت: يعني علاماتها].
قال: ووجه الدلالة أن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كله فيما قدر له فيستحب إتباعه في ذلك.
وذكر في شرح المنهاج ذلك عن الحاوي قال والحكمة فيه:
أنها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف.
من جهة رؤية النفس فلا يأمن السلب.
ومن جهة أن لا يأمن الرياء.
ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس.
ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيُوقع غيره في المحذور، ويستأنس له بقول يعقوب عليه السلام (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك) الآية”([15]).
وقال الماوردي الشافعي رحمه الله:” ويستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها [قلت: يعني علامة من علاماتها، وقد سبق أنها لا ترى بالعين المجردة]، ويدعو بإخلاص نية وصحة يقين بما أوجب من دين ودنيا، ويكون أكثر دعائه لدينه وآخرته” ([16]) وذكر حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم.
ش/ قال عبيد: فافهم يا من تحب النصيحة هذا الكلام وأقدر له قدره، واسلك سبيل أهل الهدى والتقى، وإياك ومداخل الشيطان، ومنها إشهار العمل الصالح للناس.
واعلم أنه كلما أخفي العمل الصالح كلما كان أكثر أجراً، إلا إذا ترتبت مصلحة على إشهاره، وليس إشهار علامات ليلة القدر ممن رأها كلها أو بعضها من المصلحة.
وقد عرفت مما نقلناه لك من كلام أهل العلم مؤيدًا بالأدلة ما يترتب على ذلك من المفاسد، فإياك ثم إياك فترديك هذه المحدثات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه
عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري
المدرس بالجامعة الإسلامية سابقا
وحرر
صباح السبت
الحادي والعشرين من شهر رمضان عام خمسة وثلاثين وأربعمئة وألف للهجرة
([1]) [الدخان: 1 -6].
([2]) [القدر: 1-5].
([3]) كتاب الدعوات، بابٌ. قال الألباني: صحيح، برقم (3513).
([4]) كتاب الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية، قال الألباني: صحيح، برقم (3850).
([5]) مسند عائشة رضي الله عنها برقم (25384).
([6]) كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا وافق ليلة القدر برقم (10645).
([7]) كتاب عمل اليوم والليلة، ذكر الاختلاف على سفيان في هذا الحديث برقم (10646).
([8]) مجموع فتاوى ابن باز (6/398).
([9]) كتاب الصوم باب الإعتكاف وليلة القدر برقم (3688).
([10]) كتاب الصيام باب صفة ليلة القدر بنفي الحر والبرد فيها، وشدة ضوئها، ومنع خروج شياطينها منها حتى يضيء فجرها برقم (2190).
([11]) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان برقم (3680).
([12]) ما أسند عبد الله بن عباس، باب عكرمة مولى بن عباس برقم (2802).
([13]) صحيح الجامع وزياداته برقم (5474).
([14]) متفق عليه، البخاري كتاب فضل ليلة القدر باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، برقم (2018)، ومسلم كتاب الصيام باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعا لرمضان برقم (1167).
([15]) فتح الباري (4 / 268).
([16]) الحاوي الكبير للماوردي (3 / 484).